المولوية .. طقوس غنائية أم فلسفة روحية ؟



المنشد عامر التوني وخلفه الدراويش


المولوية .. طقوس غنائية أم فلسفة روحية ؟


خيوط كثيرة تربط الماضي بالحاضر، تمتد بطول المسافة بيننا وبين غابر الأزمان، وتتفاوت قوتها حسب قيمة الأحداث، فتبدو كأوتار آلة موسيقية، تتباين أصواتها حدة وعمقاً، غير أنها في نهاية الأمر تأتي إلينا بعبق التاريخ، خيالات وأصداء. وشيئا فشيئا، ومع استغراقنا في التأمل تتجسد الخيالات وتتمايز الأصوات.


وعلى مسافة منهم جلس كبيرهم ( قد يكون خليفة جلال الدين الرومي) مميزا عنهم بشريط أخضر يلف حول طربوشه
في العادة تبدأ حفلة المولوية بنغمات الناي الشجية، مقدمة للسماع، ترقرق النفوس وتسمو بالأرواح، والدراويش في خشوع يرتدون الجبة السوداء، وعلى رؤوسهم طرابيشهم الطويلة، بينما تنسرب أيضا أبيات الشعر مضفرة مع الألحان، بصوت عذب خاشع لأحد منشدي الكورس المولوي، تمدح الرسول بأبيات من ديوان المنثوي، أعظم ما كتب في الشعر الصوفي، لمؤلفه الشيخ الأكبر للطريقة مولانا جلال الدين الرومي، الذي انتسبت له الطريقة فسميت بالمولوية.

أتوا بإشارات الإجلال والاحترام
طقوس السماع
افترش الدراويش خشبة المسرح وظهروا في تأثر بالغ مما يقال من أشعار، وعلى مسافة منهم جلس كبيرهم ( قد يكون خليفة جلال الدين الرومي) مميزا عنهم بشريط أخضر يلف حول طربوشه فيما يشبه العمامة، وإذا ذكر النبي أو الشيخ جلال الرومي في سياق السماع، أتوا بإشارات الإجلال والاحترام لهذه المقامات الرفيعة، وهكذا حتى يبلغوا حدا معينا، فيطرقوا بأيديهم على الأرض وينهضوا واقفين، وأيديهم تتقاطع على الصدر، وكأنها مقيدة، في إشارة إلى أن الإنسان مقيد بالحياة وبشريته، ولذلك يتوق الولي إلى التحرر، إلى الحياة الحقيقية بعد الموت.
ويستأذن أكبر الأتباع للشيخ الكبير في بدء الطقوس التعبدية التي تحكى مرور الولي من الحياة الدنيا ( عالم الشهادة) إلى عالم الغيب، بعد أن يكون قد أتم رسالته، وأعطى الولاية لمن يخلفه قبل الرحيل في مشهد تعبيري يسمى المقابلة ، وهكذا تتداول المسئولية وتتناقل التبعة، في إشارة إلى مراحل خلق الكون ودورته، من أول نفخ الروح مرورا بخلق المادة أو الجسد حتى الوصول بالنفس إلى أسمى الدرجات وهي الوجد.

وفي انطلاقة الدراويش يدورون حول أنفسهم وحول مركز المسرح



فلسفة الدوران
وفي انطلاقة الدراويش يدورون حول أنفسهم وحول مركز المسرح، كما يفعل الحجيج في الكعبة، في دوائر ذات عدد معلوم وتداخل مقصود ليصنعوا في النهاية ما يشبه الوردة، التي تعرف بوردة الحب الإلهي، ويكون مركزها منتصف دائرة المسرح، الذي هو مركز قبة المسرح أيضا، والتي تبدو على شكل سماء تحلق فيها الطيور وتتوسطها الشمس، التي تعبر عن روح الولاية أو مركز الكون.
يحمل قبة المسرح اثنا عشر عمودا، وعلى كل عمود يوجد اسم إمام من الأئمة الإثنى عشرية، بداية من الإمام على وانتهاء بالإمام محمد المهدي، والدراويش في دورانهم      يمثلون هؤلاء الأئمة الذين يشبهون الكواكب الإثنى عشر التي تدور في مداراتها في السماء.
ويري المولوية أن الإنسان يحمل صفات الكون كلها وجميع عنصاره، من الهواء والتراب والماء والنار، متمثلين قول الإمام علي:


    دواؤك فـيـك ولا تـشـعر                                                    وداؤك فــيـك ولاتـبـصـر
     وتحسب أنك جرم صغير                                                   وفيك انطوى العالم الأكبر


والولي الكامل في نظرهم هو الذي تجتمع فيه هذه العناصر، بالإضافة إلى النفخة الإلهية، التي تتجلى بالابتعاد عن مادية الجسد، ويمثلون على ذلك بإلقاء العباءة السوداء على المسرح، والدوران برداء أبيض ذي تنورة واسعة بيضاء في إشارة إلى الكفن، وفي تعبير عن الاستعداد للموت وطلب الآخرة، وترك شهوات الجسد، ورغبة في الوصول إلى قمة الوجد مع الله وهو ما يسمى " التوحد ".

الناي الحزين


يقول الدكتور أحمد سامي، الحاصل على الدكتوراه فى الموسيقى المولوية أن الموسيقى المولوية المصاحبة لدوران الدراويش أثناء السماع، تنطلق من قاعدة الموسيقى العربية الأصيلة، المستمدة من التراث العربي ورواده، من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم، وقد حمل المولوية أمانة الحفاظ على هذه المقامات والايقاعات العربية، ووصل ما استخدموه من مقامات إلى 360 مقاما موسيقيا، وفى أثناء السماح يتنقل العازفون عبر عدد ضخم من هذه المقامات بغرض تجلية النفس وترقيق المشاعر.




ويضيف د.أحمد أن الصوفية المولوية هم أول من أدخل الآلات الموسيقية في الذكر، فقبلهم لم يكن أحد يستخدم هذه الآلات على الإطلاق، بل كان هناك من أهل الشريعة من حرموا استخدامها، غير أن المولوية اعتمدوا في ذكرهم أو سماعهم على الدف والطنبور والناى، والذي يشكل بالنسبة لهم مكانة خاصة ودورا أساسيا، لما يصدر عنه من نغم يشبه البكاء، فيفعل في النفس ما يرجى من خشوع وتأثر، فهو الجزء الذي قطع من ساق الغاب، فظل يبكي كلما نفخ فيه إنسان حزنا على فراق العود الذي قطع منه، وهو يماثل عند المولوية الإنسان الذي يبكى حزنا لاقتطاعه من الجنة، فالناي هو الولي أو الإنسان الكامل، الحزين على فراق ربه، وليس المتمسك بشهوات الدنيا، ولذلك يطلقون على الناي اسم "شاه منصور" نسبة للحسين بن منصور الحلاج الصوفي المعروف.


آلة الطنبور
دلالات قرآنية
ويذهب بنا د.أحمد سامى إلى بعد دلالي آخر للآلات التي يستخدمها المولوية، فيقول إن الناي أيضا يعبر عن الصور، " فإذا نفخ في الصور.."، والذى ينفخ فيه يوم القيامة ليبعث من فى القبور، وكذلك الدف الذى يعبر لديهم عن الناقور، "فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير" فالمقصود إذن بهذه الآلات أثناء العزف عليها هو تذكر دلالاتها ومقاصدها، التي تنبه الإنسان بمقدم القيامة ووجوب استقبالها بالزهد في الدنيا.
وما يقوله د.أحمد عن منزلة الناي الرفيعة لدى صوفية المولوية، والتي تنسحب على عازفة أيضا، أكدته وثيقة بدفترخانة الأوقاف، ذكرت الوثيقة أجور عازفي الفرقة المولوية في زمن سلاطين المماليك، فأوضحت أن أجر عازف الناي بلغ ثلاثين درهما، في حين وصل أجر الطبال إلى 15 درهما فقط، أي نصف أجر عازف النى، الذى هو نوع من التكريم للناي وعازفه اللذين هما أساس السماع أو الذكر المولوي.


السلطان الدرويش
يقول د.حجاجي إبراهيم إن مجيئ المولوية إلى مصر كان سابقا على الحملة العثمانية، ولما أراد السلطان العثماني سليم الأول التعرف على أحوال المصريين والمجتمع الداخلى، تنكر في هيئة درويش مولوى، وأقام في تكيتهم التي كانوا قد أتموا إنشاءها على أطلال المدرسة، مدة تزيد على شهر، نام وأكل وأحيا ليالي السماع كواحد منهم، دون أن يشعر به أحمد، أو يتصور أنه السلطان العثماني.
قضى المولوية سنين إقامتهم بمصر في ذكر وزهد وورع، اشتهروا بهيئتهم ذات المعاني الخاصة الدالة على بعدهم عن لذات الحياة، فالطربوش الطويل "القاووق" يحاكى شاهد القبر، والرداء الأبيض ذو التنورة الفضفاضة يرمز إلى الكفن الذى يرتديه الدرويش دائما ليكون على ذكر دائم بالموت واستعداد  للرحيل، والعباءة السوداء هي ما في الإنسان من شهوات وتعلق بالدنيا، يلقيها وراء ظهره عندما يبدأ في الدوران، متخليا عن الدنيا مستقبلا الملكوت الأعلى، الذى يرتقي إليه كلما تدرج في الصعود إلى روح الولاية أو مركز الطاقة الروحية.

يا من ولدتم عندما وصلتم إلى الموت ..                                                   هذا هو الميلاد الثانى، ألا فلتولدوا فلتولدوا









1 comment: